مقالات
أخر الأخبار

نحو تطوير التعليم في العراق

كتب د. اسامة ابو شعير.. رغم حصول مئات الطلبة على معدلات شبه كاملة في الامتحانات، يواجه العراق فجوة تعليمية عميقة تكشف انفصال المدارس عن احتياجات سوق العمل. ومع تزايد البطالة حتى في التخصصات الطبية، يصبح إصلاح التعليم ضرورة وطنية عاجلة.

هذا المقال يستعرض رؤية عملية مستندة إلى التجربة البريطانية وخبرة ميدانية في الشرق الأوسط، لوضع خطة تحول تعليمي تبني جيلاً قادراً على صناعة المستقبل.

الأرقام البراقة في نتائج السادس الإعدادي ليست دائمًا شهادة على جودة التعليم، بل قد تكون علامة على خلل أعمق. في ظل بطالة متزايدة حتى في التخصصات الطبية، وتراجع ارتباط التعليم بسوق العمل، يصبح السؤال: كيف ننتقل من نظام يكدّس المعلومات في العقول إلى نظام يبني المهارات والتفكير؟ هذا المقال يقدم رؤية عملية مستندة إلى التجربة البريطانية وخبرة ميدانية في الشرق الأوسط، لصناعة مشروع وطني يعيد للتعليم العراقي دوره في بناء المستقبل.

في امتحانات السادس الإعدادي الأخيرة، حصد مئات الطلبة معدلات شبه كاملة، لكن خلف هذه الأرقام البراقة فجوة عميقة تكشف عن نظام تعليمي ينتج شهادات أكثر مما يصنع مهارات. وفي ظل عالم يتسارع تغيّره، باتت الحاجة ملحّة لثورة تعليمية تنقل العراق من التلقين إلى الترصين بالمهارة والتفكير، وتربط المدرسة بمستقبل الوطن لا بماضي المناهج.

تبدو المشكلة واضحة في مؤشرات سوق العمل. فتصريحات حديثة لنقيب الأطباء ونقيب الصيادلة أكدت أنه خلال السنوات الخمس المقبلة لن تكون هناك فرص عمل لمخرجات التعليم العالي من الأطباء والصيادلة. وإذا كان هذا هو الحال في أكثر التخصصات طلبًا، فما بالك ببقية المجالات؟ هذا يعني أن التعليم يسير في مسار منفصل عن احتياجات الاقتصاد، وهو ما يفسر ارتفاع البطالة بين الخريجين، وضعف الإنتاجية، وانتشار ظاهرة “لبس الشهادات” بلا مضمون مهاري أو معرفي حقيقي.

الفجوات التعليمية تبدأ مبكرًا. فضعف مهارات القراءة والرياضيات في الصفوف الأولى يخلق سلسلة من التأثيرات السلبية التي ترافق الطالب حتى التخرج.

معالجة هذه الثغرة تتطلب برامج دعم مركزة، مثل النماذج المعتمدة في بريطانيا، حيث تتم متابعة تقدم الطالب أسبوعيًا مع تدخلات فردية عند الحاجة، لضمان عدم تراكم الفجوات. وقد كانت هذه الخطوة، إلى جانب إصلاح المناهج وتدريب المعلمين، أحد المحاور الأساسية لبرنامج الإصلاح الذي انطلق في المملكة المتحدة عام 2010، والذي عملت ضمن سياقه في التركيز على رفع جودة المعلمين، تحسين الانضباط في المدارس، وتحديث طرق التدريس القائمة على الأدلة. والنتيجة أن تصنيف المدارس تحسّن بشكل ملحوظ، وارتفع ترتيب إنجلترا في اختبارات PISA الدولية، مع زيادة نسبة المدارس المصنفة “جيدة” أو “ممتازة”. هذه التجربة ليست وصفة جاهزة يمكن استيرادها، لكنها تقدم منهجية واضحة في التشخيص والتجريب والشراكة مع الميدان يمكن للعراق أن يكيّفها مع خصوصياته.

كما أن الاعتماد على التلقين والحفظ كمقياس رئيس للتفوق يفرغ العملية التعليمية من جوهرها. المطلوب هو إدخال أنشطة تطبيقية ومشاريع بحثية في جميع المراحل، بحيث يصبح التقييم قائمًا على مهارات التفكير والتحليل وحل المشكلات، لا على استرجاع النصوص المحفوظة.

الفجوة بين التعليم وسوق العمل تحتاج إلى ربط المناهج مباشرة بالمهارات المطلوبة في القطاعات الاقتصادية النشطة. ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال إشراك القطاع الخاص في تصميم البرامج التدريبية للطلبة، وربط التعليم الثانوي والجامعي بمشاريع ريادة الأعمال والابتكار، بحيث يكون الطالب مؤهلًا لدخول سوق العمل أو خلق فرص عمل بنفسه.

من الضروري أيضًا أن نكسر ثقافة “التعميم قبل التجريب”. الإصلاح الناجح يبدأ بخطوات محسوبة، مثل إطلاق مدارس تجريبية في كل محافظة، تُطبَّق فيها أساليب تدريس ومناهج جديدة، وتُراقب نتائجها بدقة قبل اتخاذ قرار التعميم. هذه المدارس يمكن أن تصبح مختبرات تعليمية وطنية، تنقل خبرتها لاحقًا إلى بقية النظام.

وأخيرًا، لا يمكن لأي إصلاح أن ينجح إذا بقي الميدان خارج دائرة صنع القرار. المعلم وقائد المدرسة هما الركيزة الحقيقية للتغيير، ولهذا فإن إشراكهم في صياغة السياسات، وتوفير تدريب مهني مستمر، وتقديم حوافز للمدارس التي تحقق تقدمًا ملموسًا، يجب أن يكون جزءًا ثابتًا من أي خطة تطوير.

الإصلاح التعليمي في العراق يجب أن يبدأ من هذه المحاور العملية، مع خطة زمنية واضحة للتنفيذ، تضمن أن كل مرحلة تُبنى على نتائج المرحلة السابقة. نجاح هذا المشروع سينعكس في تحسن معدلات التوظيف بين الخريجين، وزيادة الإنتاجية الاقتصادية، وتقليل الاعتماد على العمالة الأجنبية، وبناء جيل قادر على المنافسة محليًا وعالميًا.

ولكي لا تبقى هذه الرؤية في إطار الطموحات النظرية، يمكن خلال السنة الأولى من الخطة الإصلاحية البدء بثلاث خطوات عملية واضحة.

الخطوة الأولى هي إجراء مسح وطني شامل لقياس مهارات القراءة والرياضيات والتفكير النقدي لدى الطلبة في المراحل المبكرة، بهدف تحديد الفجوات بدقة.

الخطوة الثانية تتمثل في إطلاق عدد من المدارس التجريبية في مختلف المحافظات، لتطبيق مناهج وأساليب تدريس جديدة تدمج بين المعرفة الأكاديمية والمهارات الحياتية، مع آليات تقييم متعددة تبتعد عن الحفظ وحده.

أما الخطوة الثالثة فهي إعداد برنامج وطني لتدريب المعلمين وقادة المدارس، يركّز على استراتيجيات التدريس الحديثة، وربط المدرسة بسوق العمل عبر مشاريع تطبيقية وشراكات مع القطاع الخاص. بهذه البداية، يمكن أن نضع حجر الأساس لتحويل التعليم من عملية تلقين إلى عملية بناء عقول ومهارات قادرة على صناعة مستقبل العراق.

الأرقام وحدها لا تبني مستقبل العراق، إذا لم يتحول التعليم من التلقين إلى تنمية المهارات والتفكير النقدي، فسوف نواصل إنتاج بطالة مزيّنة بشهادات براقة، بدل تخريج كوادر تصنع التغيير. الإصلاح التعليمي اليوم لم يعد خيارًا، بل ضرورة وطنية لحماية اقتصادنا ومجتمعنا.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى