مقالات
أخر الأخبار

الصراع السياسي وتأثيره في الأمن القومي العراقي

كتب خالد عليوي العرداوي.. لا تقتصر قوة الدول على مظاهر قوتها التقليدية كالموقع، والحجم الجغرافي والسكاني، والقوة العسكرية والاقتصادية، وطبيعة السكان وما شابه، بل تشمل -أيضا- عقلية الحكم السائدة.

فكلما تحلى المستوى السياسي بالشعور بالمسؤولية، والكفاءة، واعتماد الحوار والتنافس البناء، ووحدة الموقف، والالتزام الأخلاقي في علاقات افراده المتبادلة كلما ارتفع مستوى أداء مؤسسات الدولة، واقتربت قراراتها من الحكمة وبعد النظر، وزادت ثقة الناس بها…، والعكس صحيح، فما يجري في المستوى السياسي ينعكس سلبا ام إيجابا على بناء الدولة والمجتمع.

إن الوصول إلى السلطة هو حق مشروع لجميع القوى السياسية، الا ان آلية الوصول إلى هذا الحق تكشف عما إذا كانت القوى السياسية تسلك السلوك الصحيح والآمن لإدارة الحكم ام لا؛ فارتكازها على قاعدة التنافس السياسي التي يكون شعارها الكل يعمل من اجل الوطن يدل على أن اختلاف اجنداتها وانتماءاتها السياسية لن يشكل عقبة أو خطرا على مصالح الدولة العليا، بصرف النظر عمن سيصل إلى السلطة. على عكس الحال فيما إذا ارتكزت على قاعدة الصراع السياسي، التي تجعل شعارها الكل يعمل من اجل السلطة، فهذه القاعدة تضر كثيرا بمصالح الدولة العليا، وتهدد أمن وسلامة مواطنيها، وتحول الوصول إلى السلطة من حق مشروع للجميع إلى سعي محموم تبذله كل الأطراف لفرض نفسها على السلطة، بصرف النظر عن الأدوات والنتائج. لا يكفي الغطاء الديمقراطي للنصوص القانونية والمؤسسات الدستورية، واجراء الانتخابات الدورية للدلالة على وجود ديمقراطية حقيقية في بلد ما، فقد تصبح هذه الأشياء مجرد قناع خادع يمنح القوى السياسية المشروعية في إدارة العملية السياسية مع غياب الايمان الحقيقي بالخيار الديمقراطي، ورفض قيمه ومخرجاته.

إن رسوخ الديمقراطية يتطلب عقلية حكم مؤهلة تحول السلطة من غاية إلى أداة، فيما تكون الغاية الحقيقية هي العمل على خدمة المصالح العامة والخاصة، وإعادة تعريف العلاقة بين السلطة والشعب بما يضمن تعبير الأولى تعبيرا صادقا عن إرادة الشعب، وتمثيلها لطموحاته وتطلعاته في الحياة، فيما يشكل وجود القوى السياسية فرصة لخيارات متعددة يحدد التصويت الشعبي تفضيلات الناس لأي منها، وفي مثل هذا النمط من العقلية الحاكمة يعم التنافس السياسي قبل واثناء وبعد كل دورة انتخابية.

اما إذا كانت عقلية الحكم غير مؤهلة، فيصبح البناء الديمقراطي هشا، وتنقلب الصورة رأسا على عقب، ويستفحل الصراع السياسي بين القوى السياسية، ويبلغ ذروته اثناء الحملات الانتخابية، ولا تدخر هذه القوى وسيلة لإلحاق العار ببعضها البعض، لتبدو أوقات الانتخابات كأوقات الحروب في تهييج الشعب وتعبئته، وخلق المشكلات والأزمات وتعظيمها، دون مبالاة القوى المتصارعة في الوصول إلى حافة الهاوية لضمان فوزها بالسلطة.

والعراق -مع الأسف- على الرغم من اجرائه لخمس دورات انتخابية على المستوى الاتحادي، ووقوفه اليوم على اعتاب الدورة السادسة، التي ستجري في نهاية هذه السنة، إلا أن ديمقراطيته ما زالت ناشئة التي بدأت قبل أكثر من عشرين سنة؛ فالصراع لا التنافس هو ما يحكم علاقات قواه السياسية، دون اتعاظ بعض هذه القوى مما جره الصراع من مخاطر كبيرة وكارثية خلال العشرين السنة المنصرمة، مع عدم ادراكها لما يشكله هذا الصراع من مخاطر على الامن القومي العراقي.

تعاني المجتمعات النامية ذات التنوع الاثني، كالمجتمع العراقي من أزمة اندماج اجتماعي عميقة بسبب فشل حكوماتها وقياداتها المتعاقبة في إدارة تنوعها الاثني بشكل ناجح، ولذا تكون مثل هذه المجتمعات حساسة للغاية تجاه التهييج والتعبئة التي يقوم بها مستواها السياسي، فهي تختزن في ذاكرتها الكثير من السرديات المركزية، والصراعات المؤلمة، والمخاوف المتبادلة، ومن السهل استعادة كل هذه الذكريات لتجديد نيران الثأر والكراهية بين الافراد والجماعات.

وعندما لا يعلو وعي المستوى السياسي على وعي المجتمع، تتورط القوى الحاكمة بتأجيج الفتن الكامنة في الذاكرة الاجتماعية، وتوظف السلطة ومؤسساتها في أمور لا ينبغي حدوثها، فبدلا من علو السلطة على الأفراد بصرف النظر عن انتماءاتهم الاثنية، وتوجهاتهم السياسية تهبط للأسف إلى مستواهم، وتصبح شريكا لهم في خصوماتهم…وهذا ما جرى عليه الحال في كل الدول المتنوعة التي شهدت صراعات داخلية، كجنوب افريقيا في ظل حكومة بريتوريا، ورواندا وبورندي في تسعينيات القرن العشرين المنصرم، وفي ليبيا بعد الإطاحة بحكم الرئيس معمر القذافي، واليمن بعد الإطاحة بحكم علي عبد الله صالح، وما تشهده السودان اليوم من صراع داخلي تسبب بأسوأ كارثة إنسانية معاصرة… ان الصراع السياسي بين القوى السياسية العراقية يعيد بلدها إلى الدوائر السيئة من الصراع الداخلي التي لا زال المجتمع يأن من جراحها، وهذا يشكل خطرا كبيرا على نظام الحكم برمته؛ لأنه يهدده بفشل تجربته الديمقراطية، كما يشكل خطرا على الأمن والاستقرار، الذي يعيشه العراق في ظل حكومته الحالية، لا سيما أن هذا الصراع لم يوفر مجالا من مجالات الحياة الا ودخل فيها، بسبب وبدون سبب، حتى وصل إلى مجالات التعليم والرياضة وغيرها.

ومخاطر هذا الصراع على الأمن القومي مؤشرة بعناية من القيادات والأجهزة الأمنية العراقية، فضلا عن الخبراء والباحثين، وهي محط اهتمامهم الدائم، ولكن صوت هؤلاء يبدو خافتا وحبيس الغرف المغلقة، ولا يؤثر كثيرا في بعض القوى في المستوى السياسي، مما يدل على عدم وجود تناغم وانسجام بين ما يراه المستوى الأمني والمستوى السياسي من متطلبات لحماية مصالح العراق العليا، وغياب هذا التناغم والانسجام ينذر بمخاطر مستقبلية وخيمة العواقب.

بناء على ما تقدم، من الملح للغاية، والعراق يمر بسنة انتخابية استثنائية تجري في ظروف إقليمية ودولية بالغة التعقيد، ان يتحلى المستوى السياسي بمزيد من الضبط والادراك لفهم عواقب كثير من الاقوال والافعال والمواقف التي تصدر من بعض الساسة والقوى على الامن القومي العراقي، وان يتحولوا بسرعة من قاعدة الصراع إلى قاعدة التنافس في العمل السياسي؛ لاستدامة الامن والاستقرار الذي يمر به بلدهم اليوم بما يضمن مصالح الوطن والمواطن.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى