« قيح» السويداء تحت المجهر

كتب عبد المنعم علي عيسى.. شهدت محافظة السويداء السورية يوم السبت 16 آب الحالي تظاهرات حاشدة في ساحة الكرامة وسط المدينة، وكذا في مدينة شهبا التابعة لها، وقد شارك الآلاف فيها رافعين شعار “ حق تقرير المصير”، وقد أظهرت الفيديوهات التي نشرت عن تلك التظاهرات إن ارتفاع مناسيب “ الحماوة”
كان متدرجا بحيث بدا منخفضا في البدايات مع رفع هذا الشعار الأخير، لتتزايد حدته بعدما ذهب البعض لـ” احتلال” المشهد مرددين لشعارات راحت سقوفها تتصاعد، بدءا من المطالبة بالاستقلال الكامل عما أسموه “ النظام السوري”، ومرورا بشعارات اعتبرت السلطة القائمة راهنا بمثابة “ داعش”، ثم وصولا إلى إعلان القطيعة التامة مع هذه الأخيرة عبر شعار” السويداء حرة حرة.. الجولاني يطلع برا”، لكن المشهد لم يتوقف عند ذلك فحسب، ففي حمأة التظاهرات، التي تظهر شعاراتها مدى الاحتقان الذي يعتمل في الذات الجمعية لأهل المدينة بمفاعيل عدة بعضها قديم، وهو يعود لحقبة الأسدين التي همشت الكثيرين ومنهم الدروز، وبعضها حديث وجراحه لما تتخثر دماؤها بعد في أعقاب الأحداث الدامية التي شهدتها المحافظة ما بين 13 و 18 تموز الفائت، نقول : في تلك الحمأة اندفع المشهد نحو لحظة “ درامية” تمثلت بظهور “ العلم الأزرق” مرفوعا في وسط ساحة الكرامة، وبأيدي أبناء الكرامة، قاذفا بالكثير من الدلالات التي تشير بالدرجة الأولى إلى وجود خلل داخل “ الجهاز المناعي” للجسد السوري بدليل خروج كل هذه “ التقيحات” على السطح، وإذا ما كان الحدث يمثل انعطافة كبرى داخل الكيان السوري، وهو لم يشهدها منذ أن خرج هذا الأخير بالشكل الذي يعرف به الآن عام 1920، فإن مسؤولية السوريين اليوم البحث في: لماذا حدث هذا؟، بدلا من ترديد خطاب راح يتراوح ما بين” التخوين”، وبين ضرورة استئصال” شأفته” بكل السبل، وبأقصى سرعة ممكنة خوفا من” انتشار وبائه”، وفقا لهؤلاء.
بداية، وقبيل إطلاق التوصيفات على ما جرى، وهو فعلا تحول سياسي جارف يشير إلى حال من انعدام الثقة ما بين السلطة القائمة وبين جزء وازن من مواطنيها، وهو لا ينحصر بالطائفة الدرزية فحسب، لا بد من تشخيص تلك “ الظاهرة” الغريبة عن البنيان السوري، والتي لا تتناغم مع تركيبته، التي لطالما يغوص في ذاتها الجمعية ما مفاده بأن الصراع مع كيان الإحتلال هو صراع وجودي، وإن الأخير هو كيان إبادي قائم على اجترار الدم اللازم لمد أذرعه في المحيط، و المحاولة، أي محاولة فهم الظاهرة التي لا تعني بالتأكيد محاولة لتبريرها، يجب أن تفضي لتقديم إجابة عن سؤال محوري يقول : هل يشير ما حدث إلى تحول جذري في الانتماء والهوية عند طائفة الموحدين؟.
عانت محافظة السويداء، التي يغلب عليها طابع مذهبي خاص، من علاقة متوترة مع المركز منذ استقلال البلاد عام 1946، وفي بعض مراحلها كانت قد وصلت إلى مرحلة الصدام العسكري الذي كانت أولى محطاته زمن الرئيس السابق أديب الشيشكلي 1949 – 1954، ثم جاءت مرحلة “ البعث” المديدة 1963 – 2024، لتضفي نوعا من “ هندسة” جديدة لتلك العلاقة مع الدروز، وهي تقوم على وجوب إبقاء “ التهميش” تحت سقف الصدام، الذي كان “ البعث” يرى أن الوصول إليه فعل له محاذيره الإقليمية، والشاهد هو أن نظام الأسد ظل صامتا تجاه “ تمرد” المحافظة السلمي، والذي استمر ما بين شهر آب 2023 لحين سقوط هذا الأخير شهر كانون الأول 2024، لكن الأشهر الثمانية التي أعقبت هذا الحدث الأخير لم تأت بتغير يذكر في الجوهر، بالرغم من أن الكثيرين كانوا قد توسموا “ الخير “ فيها انطلاقا من حقيقة أن سقوط حكم استبدادي لا بد أن يعقبه “ انفراجة” على الصعد كافة، حتى وإن اعترى الوصول إليها آلاما وأوجاعا كانت متوقعة، ولذا فإن ما حدث في السويداء كان نتيجة لتراكمات طويلة، لكن بروز كل هذا “ القيح” يشير إلى وجود اختلالات كبرى حديثة هي التي دفعت به إلى السطح، والراجح هو أن البعض كان قد وصل إلى نتيجة مؤداها إن الطريق الموصل ما بين دمشق والسويداء هو “أقل أمانا” من ذلك الذي يربط ما بين الأخيرة وبين تل أبيب، ولا بد من التركيز على حقيقة إن “البعض” فقط هم الذين وصلوا إلى تلك النتيجة، والتعميم هنا فعل بالغ الخطورة، لأن من شأنه أن يفضي إلى تموضعات يمكن لها أن تعزز من عمق “الخنادق” الموجودة بين “ المكونات” السورية بمفاعيل الأحداث التي شهدها الساحل السوري وتلك التي شهدتها مدينة السويداء، وفي المعالجة لا بديل عن اعتبار ما جرى، نقصد ما جرى في السويداء يوم السبت الفائت، رد فعل خاطئ على أفعال خاطئة، والقيمون على الأول تاهت “ بوصلتهم” على خلفية الوضعية التي وجدوا أنفسهم فيها وخيارها: الفناء أو الإستقواء بالخارج حتى ولو كان هذا الأخير عدوًا تاريخيا ووجوديا،، ولا بديل هنا، والحال هذه، من أن تذهب المعالجة إلى حلول جذرية لكي لا ينحدر رد الفعل إلى فعل منظم، تتسع دوائره، وتصبح قادرة على تمزيق “ السجادة” السورية التي باتت مثقلة بالكثير.