
كتبت نرمين المفتي.. في العراق، الموت ليس حدثا طارئا ولا قدرا طبيعيا سببه المرض أو الشيخوخة. الموت هنا أصبح جزءا من دورة الحياة اليومية. ليس الآن فقط، بل منذ عقود.
أذكر أنني كتبت أيام الحصار القاسي أن الموت صار أسهل من الحلم. وها نحن اليوم نموت بطرق لا تشبه الموت العادي. فمنذ زمن طويل، لا يغادر العراقيون العالم على أسِرّة نظيفة في مستشفيات لائقة أو في شيخوخة هادئة، بل يغادرونه وسط الفواجع.
المأساة تتكرر بأشكال مختلفة، لكن نتيجتها واحدة وهي المزيد من الضحايا، والمزيد من الأسماء التي تتحول إلى صور على مواقع التواصل الاجتماعي، ولافتات سوداء تعلق على الجدران. وما زلت أكرر، كما قلت في زمن مضى بأن ليس أسرع في العراق من أن يتحول الإنسان إلى لافتة سوداء.
الناس هنا يسألون أنفسهم دائما: لماذا نموت هكذا؟ ولماذا أصبحت الكارثة مشهدًا عاديًا من مشاهد يومياتنا؟ تتغير وجوه المسؤولين في العراق، تتبدل الأسماء، لكن الخطاب لا يتغير. قد تختلف مفردات التصريحات الرسمية، لكن المعنى يبقى هو نفسه
الفساد ليس مجرد سرقة المال العام. إنه سرقة حياة كاملة. حين تتحول الوزارات والمحافظات إلى حصص يتقاسمها المتنفذون كما تتقاسم الغنائم بعد المعارك، يموت الناس لأن المسؤول لم يختر الشركة المحترفة لبناء مستشفى أو طريق، بل فضّل عقدًا يشاركه فيه صديقه.
يموتون لأن سيارات الإسعاف لم تصل في الوقت المناسب، لأن جهاز الإطفاء قديم وغير محدث، لأن الكوادر غير مدرّبة.
يموتون لأن الوظيفة العامة صارت طريقًا للثراء الشخصي بدل أن تكون مسؤولية لخدمة الناس. لكن الكارثة لا تتوقف عند الفساد وحده. هناك خطر أشد يكمن في نظام نفسي اجتماعي أخطر من الفساد نفسه وهو التعايش مع الموت. حين تتكرر الفواجع، يفقد الناس القدرة على الغضب الحقيقي.
تصبح الجنازة طقسًا يوميًا. يتعامل المجتمع مع الموت وكأنه حدث طبيعي لا يحتاج إلى توقف طويل أو مراجعة جذرية. وهذا أخطر أنواع القبول. لأن التطبيع مع الكارثة يجعلها تتكرر بلا نهاية.
نرى هذا بعد كل فاجعة. الإجراءات الرسمية تبدأ فورًا: تفتيش، إغلاقات، عقوبات، وتصريحات حازمة. والمثال وليس الحصر، بعد فاجعة الحمدانية، تفقدت الجهات المختصة قاعات المناسبات وكل أماكن التجمع واغلقت تلك التي لم تتوفر فيها شروط السلامة، ولكن إن كانت تلك الاجراءات استمرت، هل كانت هناك فاجعة الكوت؟.
ومنذ ايام ولتخفيف غضب فاجعة الكوت، تعود مشاهد الجولات الميدانية لغلق الاماكن المخالفة لشروط السلامة في وسائل الإعلام ومواقع التواصل. لكن السؤال الذي يعرف الناس جوابه مسبقًا هو:
إلى متى ستستمر هذه الإجراءات؟ أسبوع؟ أسبوعان؟ ثم تعود الحياة إلى “الطبيعي”، ويعود الإهمال؟ ليس اهمالا من الجهات المختصة فقط، انما من اصحاب هذه الاماكن ايضا، لذلك صارت المأساة طقسًا من طقوس الحياة في العراق.
في سنوات العنف الطائفي والتفجيرات الإرهابية، كان الناس يسمعون بانفجار هنا وحادث هناك، فيسألون أولا عن الضحية، فان كان غريبا يتابعون حياتهم وإذا كان قريبا، يحزنون لأيام ثم يعودون إلى الدوامة.
ونتساءل هل يمكن كسر هذه الحلقة؟ والجواب “نعم يمكن. لكن لا يكفي أن نقول “الله المعين”. يجب أن نتذكر دائمًا المثل البليغ “العبد في التفكير، والرب في التدبير.”
الحياة ليست ترفًا ولا منّة من السلطة. الحياة حق. والموت المجاني ليس قضاء وقدرا، بل نتيجة قرارات فاسدة يمكن تغييرها. العراق لا يحتاج إلى لجان تحقيق جديدة، ولا إلى خطابات عزاء متكررة.
العراق يحتاج إلى قرار جمعي. قرار يقول بوضوح: لن نقبل بعد اليوم أن تكون حياتنا مرهونة بالفساد والإهمال. العراق يحتاج إلى أن تغضب، حكومة ومواطنين.
حين يقرر الناس أنهم يستحقون الحياة، تبدأ أول خطوة للخروج من طقس الموت اليومي.