مقالات
أخر الأخبار

{ضبط النفس}.. قناعٌ للسكوت على الجريمة

كتبت نرمين المفتي.. “ندعو جميع الأطراف إلى ضبط النفس”. عبارة تتكرر بلا كلل في نشرات الأخبار، على ألسنة المتحدثين باسم الدول الكبرى، في بيانات الأمم المتحدة، وفي مؤتمراتهم الصحفية وحتى في خطب بعض رجال الدين.

تبدو هذه الجملة لأول وهلة حيادية، عقلانية ومسؤولة. لكنها في الحقيقة، حين توضع في سياقها الحقيقي، تصبح بمثابة قناع لغوي لشرعنة الظلم وتبرير الجريمة، وتمرير الإبادة على أنها خلاف بسيط بين طرفين “متساويين في العنف”.

لكن هل حقا يتساوى طفل تحت الأنقاض مع طائرة “إف- 16″؟ وهل يُطلب من الأم التي تفقد أبناءها في غارة واحدة أن “تمارس ضبط النفس”؟ وهل تُمنح الدولة التي تمتلك ترسانة نووية، وميزانية تسليح تفوق بعض القارات، حق “الدفاع عن النفس” كلما قررت أن تُعيد رسم حدودها بالدم؟. لقد تحوّل مصطلح “ضبط النفس” إلى جملة مبتذلة، بل إلى سلاح ناعم بيد الأقوياء، يُوجَّه نحو الضحايا وحدهم. لم نسمع يومًا مسؤولا غربيا يقول لـ (إسرائيل) “عليكم ضبط النفس” بعد مجزرة في غزة، أو بعد قصف مخيم للنازحين، أو بعد تدمير مستشفى. بل على العكس، تُمنح (اسرائيل) فورًا “الحق في الدفاع عن النفس”، حتى لو كان القصف ردا على حجر، أو على مقاومة شعب محاصر منذ عقود. أما الفلسطيني والسوري واليمني والعراقي والإيراني حين يكون الهدف، فمطالب دائما بأن يكون نبيا أعزل، يصبر، يحتسب، ويُقنِع العالم بأنه ليس تهديدا رغم فقره، ولا إرهابيا رغم أنه يُدفن حيا تحت الركام.

ولعل أكثر ما يُعرّي هذا الخطاب هو صمته التام أمام مشاهد الإبادة. حين يُقتل مئات الأطفال، ويُقصف المدنيون عمدًا، وتُدمّر البنية التحتية بشكل ممنهج، لا نسمع كلمة “إدانة”. بل نسمع من ندعو إلى “وقف التصعيد من الجانبين”، و”يجب تجنب سقوط المزيد من الضحايا” و”نُشجع على العودة إلى طاولة المفاوضات”، وكلها عبارات تطمس الجريمة، وتُساوي بين الجلاد والضحية. وفي الحرب المستمرة على غزة، بلغ هذا الخطاب ذروته في الانحطاط الأخلاقي. تُقصف المدارس، وتُبتر أطراف الأطفال، ويُحاصر السكان حتى الجوع، ثم يُطلب من الفلسطيني أن يضبط نفسه، وأن لا ينفعل، وأن لا يرفع صوته حتى لا يُوصف بـ”التحريض”. بل إن لغة “ضبط النفس” أصبحت أداة للابتزاز: من لا يضبط نفسه لا يستحق المساعدات، ولا يُعامل كمدني، ولا يُعترف بألمه. وكأن الصراخ ممنوع على المذبوح. المشكلة ليست فقط في اللغة، بل في ما تكشفه هذه اللغة من رؤية مشوهة للعالم: رؤية ترى أن بعض الشعوب خُلقت لتُعاقَب، وأن صبرها هو الفضيلة الوحيدة المسموح بها. إنه منطق استعماري قديم بثوب أممي حديث، يجعل المقهور مسؤولا عن ردّة فعله، بينما يُعفى القاهر من المساءلة. لكن على خلاف هذا التواطؤ اللفظي، جاء تصريح نادر من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش خلال إحدى جولات القصف على غزة، حين قال، “نطالب (إسرائيل) بممارسة أقصى درجات ضبط النفس، والالتزام بالقانون الدولي الإنساني”.، هذا التصريح، رغم عموميته، كسر القاعدة الدبلوماسية المعتادة التي تُطالب “الطرفين” بالتعقل، ووجّه الخطاب نحو الجهة التي تملك القوة النارية والأدوات العسكرية. إنه اعتراف ضمني بأن ضبط النفس لا يُطلب من الأم الثكلى، بل من الطائرة التي أحرقت بيتها. لا من الممرض الذي يهرول بين المصابين، بل من أطلق القذيفة.

هذه اللغة لا تبرّر فقط القتل، بل تُمأسس الفجوة بين الضحية والجلاد. تجعل القاتل شريكًا مشروعًا في “المخاوف الأمنية”، والمقتول مجرّد رقم عليه أن يصمت كي لا يُتّهم بالتحريض.

إن “ضبط النفس” المطلوب حقًا هو ذاك الذي يُفرَض على آلة القتل، على التهور السياسي، على جنون القوة. أما حين يُطلب من الجثث أن تضبط نفسها، فإننا لا نتحدث عن دعوة للسلام، بل عن جريمة بلغة ناعمة. وحين تُصبح الجريمة مادة للتوازن الدبلوماسي، وحين يُعاد تعريف الصراخ على أنه تطرف، فإننا لا نعيش عصر اللاعدالة فقط، بل عصر التمويه الأخلاقي المنظم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى