مقالات

حين تتحوّل الأرقام إلى أسلحة صامتة

كتب أسامة أبو شعير.. بينما تتصدر عناوين الأخبار ارتفاع الرسوم الجمركية بين الولايات المتحدة والصين، تشتد خلف الستار معركة أشد وأعمق: معركة بالأرقام، براءات الاختراع، الابتكار الصناعي، والذكاء الاصطناعي.

ففي الوقت الذي تصف فيه واشنطن زيادات الرسوم على الواردات الصينية بأنها “إجراءات لحماية المصنّع الأميركي”، تردّ بكين عبر الاقتصاد الحقيقي: توسيع الإنتاج، وتسويق الابتكار، وترسيخ التراكم الهادئ.

كما حدث في صراع الصناعات بين طوكيو وواشنطن في ثمانينيات القرن الماضي، لم تكن الحرب بالأرقام بريئة قط… بل كانت مدفوعة دائمًا بهمّ استباق من سيتحكم بلغة الإنتاج. بلغت الرسوم الأميركية المفروضة على المنتجات الصينية 145 بالمئة، وردّت الصين بزيادة الرسوم إلى 125 بالمئة على المنتجات الأميركية. لكنها، في الوقت ذاته، عززت إنتاجها الصناعي الذي تجاوز 4.66 تريليون دولار، مستحوذة على 31.6 بالمئة من الناتج الصناعي العالمي. الولايات المتحدة، من جهتها، لا تزال تهيمن على الصناعات التقنية والعالية القيمة، رغم أن حصتها انخفضت إلى 15.9 بالمئة..

الأرقام لا تكذب، لكنها أيضًا لا تنطق وحدها. فهي تُستخدم كسلاح صامت في نزاع عالمي على من يُصيغ شروط اللعبة: من يمتلك البراءات؟ من يقود الاستثمار في الذكاء الاصطناعي؟ من يحدد سرعة الابتكار وعمق تأثيره؟.

في عام 2023، سجّلت الصين أكثر من 1.64 مليون طلب براءة اختراع، مقابل 519 ألفًا للولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن تأثير براءات الذكاء الاصطناعي الأميركية أكبر بسبعة أضعاف، ما يعكس فجوة بين الكم والكيف، بين الإنتاج الغزير والتأثير المؤثر.

الولايات المتحدة استثمرت أكثر من 67 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي، مقارنة بـ7.7 مليارات فقط في الصين. لكنها تشهد ضغوطًا متصاعدة للحفاظ على هذا التفوق في ظل انقسام سياسي داخلي، وتراجع الثقة في مؤسسات اتخاذ القرار.

رغم التوسع الهائل للصين، لا تزال الولايات المتحدة في المرتبة الثالثة على مؤشر الابتكار العالمي، بينما تحل الصين في المرتبة الثانية عشرة. ويبدو أن بكين تراهن على اللحاق عبر استراتيجية طويلة المدى تجمع التصنيع، والتعليم، والتكنولوجيا، بينما تراهن واشنطن على السرعة والتأثير اللحظي.

وفي العمق، تتجلّى ملامح الصراع أيضًا في سباق خفي على المهارات، حيث تدفع الصين الذكاء الاصطناعي إلى المدارس، وتراهن أميركا على الجامعات والشركات الناشئة.

لا تقتصر آثار هذا الصراع على طرفيه المباشرين. بل تمتد إلى أوروبا التي تواجه ضغوطًا للانحياز، والهند التي تسعى لتموضع مستقل، والعالم العربي الذي يمتلك أوراقًا طاقوية واستراتيجية قد تعيد له مساحة التأثير. فكل ارتفاع في الرسوم الجمركية، أو اضطراب في سلاسل التوريد، يفتح نافذة لصياغة دور بديل، بشرط أن يُبنى على الابتكار لا رد الفعل.

قال هنري كيسنجر ذات مرة: “من يسيطر على الاقتصاد، يكتب قواعد النظام”.

وهذا ما نشهده اليوم بوضوح. الأرقام لم تعد مجرد تقارير دورية، بل أدوات لإعادة صياغة النفوذ، وترسيم ملامح الهيمنة المقبلة.

الصين تبني مشروعها على وفرة الكم وسرعة التوسع، بينما تواصل الولايات المتحدة الدفاع عن ريادتها بنوعية الابتكار، وعمق التأثير، وتكامل المعرفة والاقتصاد.

الرسوم الجمركية اليوم ليست إلا السطح الخشن لهذا الاشتباك العميق. فالاقتصاد، كما تكشف هذه المقارنة، لم يعد مجرد منافسة في السوق، بل أداة لإعادة تعريف النظام العالمي، وصياغة المستقبل بتقنيات وموارد ومفاهيم جديدة.

*خبير اقتصادي ومستشار دولي لسياسات التعليم والتنمية – المملكة المتحدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى