
كتب محمد علي الحيدري.. رغم الانقسام السياسي وتعدّد الولاءات والانتماءات داخل العراق، إلا أن الحرب الإسرائيلية – الإيرانية الراهنة كشفت عن ملمح لافت في الرأي العام العراقي، قلّما برز بهذا الوضوح: إجماع وطني عريض على إدانة العدوان الإسرائيلي، ورفض الانتهاك الأميركي للقانون الدولي، والتعاطف العام مع حق إيران – كدولة ذات سيادة – في الدفاع عن نفسها ضد الضربات التي طالت منشآتها الحيوية.
هذا الإجماع لا يعني بالضرورة انحيازًا سياسيًا كاملاً، لكنه يعكس بوضوح إدراكًا شعبيًا واسعًا لطبيعة العدوان الذي وقع، ولمنطق القوة الذي تحاول إسرائيل والولايات المتحدة فرضه خارج أطر الشرعية الدولية.
فقد بدت الغارات الأخيرة على مواقع داخل إيران، خصوصًا تلك التي استهدفت منشآت نووية مدنية، خروجًا عن القانون الدولي ومخالفة صريحة لمبدأ عدم استخدام القوة في العلاقات الدولية.
وقد تلقّف العراقيون هذا التصعيد بكثير من القلق، لكنه ترافق – في الوقت ذاته – برفض وطني واسع لتحويل بلادهم إلى طرف في هذه المواجهة، أو إلى ساحة لتبادل الرسائل النارية.
اللافت أن هذا الموقف الشعبي جاء موحدًا بدرجة غير مسبوقة، من شمال العراق إلى جنوبه، ومن اليمين السياسي إلى اليسار، ومن التيارات الإسلامية إلى التيارات المدنية.
فبغضّ النظر عن الخلفية الطائفية أو السياسية، كانت هناك لغة جامعة تقول: نعم، نرفض العدوان، لكننا نرفض أيضًا أن يُستخدم العراق كمنصة للردّ أو كساحة تصفية حسابات. هذه الازدواجية في الموقف – أخلاقية ووطنية في آن – تعكس نضجًا في الوعي العام، ورغبة عميقة في إعادة تموضع العراق كدولة ذات سيادة، لا ملحقة بأي محور.
وإذا كانت الحكومة العراقية قد أعلنت حيادها الرسمي، فإن ما هو مطلوب اليوم يتجاوز البيان الدبلوماسي، إلى تحصين هذا الحياد ميدانيًا وأمنيًا، عبر ضبط الفصائل ومنع أي نشاط قد يجر البلاد إلى الانخراط الفعلي في النزاع. فالرأي العام سبق الطبقة السياسية في تحديد الأولوية: احترام سيادة الدول ورفض العدوان من جهة، وصيانة الاستقرار الداخلي من جهة أخرى.
لقد تعب العراقيون من الحروب، لكنهم لم يتخلوا عن بوصلتهم الأخلاقية. هم يدينون الاحتلال والعدوان ويشجبون الظلم، لكنهم في الوقت ذاته يدركون أن المعركة الكبرى التي تستحق أن تُخاض هي معركة بناء الدولة، وتحقيق العدالة، وصون السيادة، وتحييد العراق عن حروب الآخرين.
إن هذه اللحظة تحمل فرصة نادرة لتكريس خطاب وطني موحّد، يتجاوز الاصطفاف الطائفي، ويعيد تعريف الهوية السياسية العراقية على أساس الاستقلال والكرامة. وحين يتحدث الشارع بهذه النضج، فإن على السلطة أن تنصت، وعلى النخب أن تبني، وعلى الجميع أن يدرك أن الوطن لا يُحمى بالشعارات، بل بوحدة الموقف وإعلاء المصلحة العليا