
كتبت نرمين المفتي .. كنت أبحث على الإنترنت عن تفسير لهذه اللامبالاة العالمية تجاه الإبادة المتواصلة في غزة، وكيف يمكن أن تُرتكب المجازر يوميًا، وتُمحى أحياء كاملة، ويُقتل الأطفال والنساء تحت أنقاض مدارسهم ومستشفياتهم وأسواقهم، وفي قصف الخيم المهترئة في الوقت الذي بدأ فيه الجوع يفتك بهم وبالصغار خاصة، بينما يستمر العالم متفرجا وكأنه بلا ضمير وإحساس؟، ولم تتحرك المؤسسات التي تزعم الدفاع عن حقوق الإنسان؟.
خلال هذا البحث، وجدت كتابا جذبني عنوانه وهو: (Agnotology; the making and unmaking of Ignorances) ونستطيع أن نترجمه إلى (علم الجهل” الأغنوتولوجيا”: صناعة الجهل وتفكيكه) من تأليف المؤرخ الأمريكي روبرت ن. بروكتر، بالتعاون مع الباحثة لوندا شيبزنغر وصادر عن جامعة ستانفورد في 2008. في هذا الكتاب، قدّم بروكتر لأول مرة مصطلح (علم الجهل – Agnotology) وهو حقل علمي جديد يبحث في الكيفية التي يُصنع بها الجهل لنشره كأداة تضليل واستخدامه كسلاح سياسي واقتصادي.
في مقدمة الكتاب، يقول بروكتر: “الجهل ليس دائما غيابا للمعرفة، بل غالبا يكون نتاجا لعوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية تهدف إلى تغييب حقيقة ما أو تشويهها عمدا”. بمعنى آخر أن الجهل الذي نلمسه بما يخص ابادة غزة ليس نقصًا في المعلومات، بل فائضٌ من المعلومات المغلوطة المسيسة والموجهة.
يركز بروكتر في كتابه على حالات محددة تكشف كيف تتدخل القوى الكبرى، الاقتصادية والسياسية، لإنتاج الجهل. ومن أبرز الأمثلة التي دفعته إلى تأليف الكتاب وابتكار المصطلح العلمي الجديد هو ما فعلته شركات التبغ في الولايات المتحدة حين أنفقت ملايين الدولارات لزرع الشك في العلاقة بين التدخين والسرطان، عبر تمويل أبحاث مشكوك فيها، وترويج مقالات علمية مزيفة، ودفع “خبراء” إلى الإعلام لتشويش الرأي العام.
وقد كانت هذه الممارسات فعالة إلى حد تأجيل التشريعات الصحية لعقود طويلة مما تسبب بوفاة الملايين من المدخنين.
وكان بروكتر قد أكد على هذا المثال ايضا في مقاله : “حروب السرطان: كيف تشكل السياسة ما نعرفه وما لا نعرفه عن السرطان”، كاشفا فيه ان شركات التبغ الأميركية لم تكتف بإنكار الأدلة لعلاقة التدخين بالسرطان، بل موّلت أبحاثا زائفة، ونظمت لجانا “علمية” مستقلة ظاهريا، لكنها كانت في الحقيقة أدوات تضليل لزرع الشك في عقول الناس والمشرعين.
لقد تمكنت هذه الحملات من تأخير التحرك التشريعي، ومنع التحذيرات الصحية، والتقليل من شأن الأدلة العلمية. هكذا، لم يكن الجهل نتيجة قصور علمي، بل نتيجة جهد مقصود ومدروس لإبقاء الرأي العام في حالة شك وانقسام. هذا النموذج، كما يبيّنه بروكتر، لا يقتصر على التبغ. فالأمر ذاته يتكرر في ميادين أخرى مثل التغير المناخي، الصناعات الدوائية، الأمن الغذائي، وأيضا في المجال السياسي والإعلامي، حيث يُصنع الجهل جماعيا من خلال سرديات مضللة، وتكرار موجه، وتشويش على الحقائق.
وان طبقنا هذا العلم على القضية الفلسطينية، نجد أن صناعة الجهل تنم عبر الإعلام الدولي والمؤسسات السياسية الكبرى، اذ يتم إخفاء حقيقة الاستعمار والاستيطان، ويُشار إلى القصف المتوحش على غزة بوصفه ردا على “إرهاب”، بدلا من كونه تطهيرا عرقيا منظما، بالرغم من توفر الكثير من الأدلة من صور وشهادات وتقارير أممية والتي يتم تجاهلها أو التشكيك فيها أو تمييعها في خطاب “الطرفين”، و”الحق في الدفاع عن النفس”.
إن أخطر ما في الجهل المصنع في انه ينتج لا مبالاة مبررة، ويخدر الضمير العام، ويحرم الضحايا من أبسط أشكال التضامن. لذلك فإن مقاومة التجهيل ليست مجرد مسألة معرفية، بل مسؤولية أخلاقية، تبدأ بفضح أدواته، وكشف من يصنعه، ولماذا؟.
وفي زمن تتكاثر فيه المعلومات وتتسابق فيه الروايات، تصبح القدرة على تمييز الجهل المصنع عن الجهل العفوي ضرورة لبناء وعي حقيقي. فليس كل من لا يعرف جاهلا، ولكن الجاهل حقا هو من يقبل أن يُصنَع له وعيه مسبقا، دون أن يسأل أو يشك أو يبحث.