مقالات

العراق بين التوازن والتجاذب

كتب محمد حسن الساعدي.. منذ سقوط النظام السابق في عام 2003، بات العراق طرفًا رئيسًا في خارطة الصراع الإقليمي، سواء بصفته ساحة صراع بالوكالة أو فاعلًا يسعى لاستعادة دوره السيادي، كما أن موقع العراق الجغرافي بين إيران والخليج وتركيا وسوريا، وتركيبته السكانية والسياسية المعقدة، جعلته أحد أهم مفاتيح التوازن أو التفجر في المنطقة، ومع وجود قوات أمريكية وقواعد عسكرية أجنبية من جهة، وفصائل مسلحة مقربة من إيران من جهة أخرى، أصبح العراق ساحة للتجاذب بين واشنطن وطهران، هذا الواقع جعل أي توتر إقليمي ينعكس سريعًا على الأمن الداخلي العراقي، كما حصل في اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس عام 2020، وما تبعه من تصعيد خطير.

يمتلك العراق رمزية دينية عالية، لا سيما في النجف وكربلاء، ما يمنحه دورًا في توجيه الرأي العام الشيعي في المنطقة. كما أن بغداد لا تزال تمثل مركزًا ثقافيًا وإعلاميًا مهمًا، يمكن أن يسهم في إنتاج خطاب عقلاني جامع يواجه خطابات التطرف والانقسام. وللعتبات الدينية دور مؤثر في الدبلوماسية الناعمة، وقد استُثمر ذلك جزئيًا في الحوار بين الأديان.

بالرغم من التحديات التي تواجهها سعت الحكومات العراقية المتعاقبة إلى لعب دور الوسيط والتهدئة، حيث احتضن العراق حوارات بين إيران والسعودية، في محاولة لرأب الصدع في الإقليم، ما يعكس رغبة حقيقية في أن يتحول العراق من ساحة نزاع إلى منصة للحوار الإقليمي، كما أن اهم التحديات التي تعيق الدور العراقي هو الانقسام الداخلي والمتمثل بالانقسام السياسي والطائفي والذي يضعف القرار الوطني ويُدخل العراق في محاور إقليمية متضادة، بالإضافة إلى النفوذ الخارجي تعدد الولاءات والتأثيرات الإقليمية داخل القوى السياسية والأمنية العراقية يحد من استقلالية القرار، كما هو الحال بالوضع الاقتصادي والأمني، إذ إن الأزمات الاقتصادية المستمرة، وضعف فرص الاستثمار يضعفان قدرة العراق على فرض رؤية استراتيجية مستقلة.

هناك فرص مستقبلية يمكن للعراق أن يستعيد موقعه الإقليمي المحوري عبر سياسة خارجية متوازنة، تربط بين جميع الأطراف دون الانحياز الكامل لأي محور وتقوية الدولة المركزية ومؤسساتها، لضمان استقلالية القرار الوطني، والسعي في استثمار دوره الجغرافي كبوابة للتجارة والطاقة، لتعزيز نفوذه الاقتصادي والسياسي، لان بلد مثل العراق ليس مجرد متأثر بصراعات المنطقة، بل هو أحد مراكز ثقلها.

وإذا ما نجح في تحقيق الاستقرار الداخلي، واستقلالية القرار السياسي، فبإمكانه أن يلعب دورًا مهمًا في التهدئة الإقليمية، لا سيما بين المحاور المتصارعة، وأن يتحول من ساحة نفوذ إلى دولة مؤثرة في صنع موازين المنطقة، وعلى الرغم من أن العراق يملك كل عناصر القوة، إلا أن غياب الاستقرار السياسي، وضعف مؤسسات الدولة، واستمرار نظام المحاصصة، أدت إلى تراجع دوره الإقليمي، وتحوله في بعض الأحيان إلى ساحة صراع، بدلاً من كونه طرفًا فاعلًا غير أن التحولات الإقليمية، والانفتاح العربي والدولي على العراق، تمنحه فرصة حقيقية لإعادة صياغة دوره، خاصة إذا استطاع أن يعزز وحدته الداخلية، ويحارب الفساد، وينهض باقتصاده.

إن أهم ما يمكن أن يلعبه العراق اليوم هو دوره كـ”قوة توازن” بين المحاور المتصارعة، بدلًا من الانخراط في محاور متضادة. فالعراق يمكن أن يكون جسراً للحوار بين طهران والرياض، بين دمشق وبغداد، وبين أنقرة ومحيطها العربي، بل وحتى بين الشرق والغرب.

وتحقيق هذا الدور يتطلب دعمًا سياسيًا داخليًا، واستقلالية القرار الوطني، بعيدًا عن الهيمنة الخارجية، كما أن العراق اليوم أمام مفترق طرق إما أن يبني على مقوماته ليلعب دورًا وطنيًا وإقليميًا متزنًا يعزز الأمن والاستقرار في المنطقة، أو يبقى رهينة الصراعات الداخلية والخارجية. إن مستقبل المنطقة لا يُرسم بدون العراق، لكنه لن يكون فاعلًا ومؤثرًا إلا إذا توحد داخليًا وامتلك رؤية استراتيجية واضحة في سياسته الخارجية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى