
كتب خالد عليوي العرداوي.. في الساعة الرابعة فجرا يوم الثلاثاء الموافق للرابع والعشرين من شهر حزيران- يونيو الجاري، تم الإعلان عن إيقاف الحرب بين الكيان الصهيوني والجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد اثني عشر يوما من المواجهات العسكرية المتبادلة.
وبصرف النظر عن أسباب هذه الحرب، والكيفية التي توقفت فيها، ونتائجها، فان الخطر الذي عاشته منطقة الشرق الأوسط عموما، وكل دولة من دولها منفردة، يتطلب مراجعة هذه الدول لحساباتها بإجراء حوارات عميقة ومستمرة لدراسة طبيعة التحديات والمخاطر التي تواجه أمنها الجماعي والوطني على حد سواء
فالحقائق التي كشفتها هذه الحرب كثيرة للغاية بحيث لم يعد معها التفكير بالأساليب القديمة للحفاظ على الامن والسيادة مجديا لصناع السياسات ومتخذي القرار. وبقدر تعلق الامر بالعراق، فان ما كشفته هذه الحرب يتطلب وقتا طويلا من النقاش والتقييم والمراجعة، ولعل من الأمور الإيجابية هي أن القرار السياسي العراقي على المستوى الحكومي وغير الحكومي كان على قدر كبير من العقلانية وعدم التهور، فاختار في لحظات حرجة سياسة عدم التورط عسكريا في الحرب.
وهذه السياسة كانت نابعة من تقدير جديد للموقف، وما يتطلبه الحفاظ على المصالح العليا للعراق، وقد أثبت مسار الاحداث صحة ودقة هذه السياسة، فلو اتخذت الحكومة أو أي من القوى غير الحكومية سياسة مخالفة لتعرض العراق إلى حملة شرسة من التدمير والاستهداف الإسرائيلي والامريكي غير المحدود.
هذا التوافق في عملية اتخاذ القرار السياسي من الأمور الجيدة في إدارة السلطة، ويتطلب مستقبلا المزيد من التعزيز والاستدامة، فمن الأمور السيئة للغاية هو انقسام القرار السياسي في أي بلد من البلدان، لاسيما في القضايا المرتبطة بقرار السلم والحرب.
ولكن الأمور الإيجابية لا تمنع من التركيز على الأمور المهمة او ما يمكن تسميتها بنقاط الضعف التي ظهرت اثناء الحرب، وابرزها قضية الاختراق الامني والاستخباري، فأسوأ ما عانته طهران خلال هذه الحرب القصيرة هي قدرة تل ابيب على اختراقها امنيا واستخباريا بزرع الكثير من العملاء في مفاصل إدارة الدولة الحساسة، وقد تم ذلك بسرية تامة، ولسنوات طويلة، بحيث فشلت المؤسسات الأمنية الإيرانية في كشف هذا الاختراق قبل وقوع الضرر، ومن الأسباب التي ساعدت على ذلك هو كثرة المؤسسات الأمنية الإيرانية نفسها، واحيانا تنافسها وتقاطعها فيما بينها، واهمالها التركيز الذكي على حركة الافراد والسلع من والى داخل ايران.
وهذا الدرس الايراني ينبغي للعراق تعلمه جيدا في تنظيم وإدارة مؤسساته الأمنية بالعمل على توحيد القيادة والسيطرة في إدارة المعلومات الاستخبارية، ومعالجة الثغرات الموجودة عند انتقال الافراد والسلع عبر المطارات والمنافذ الحدودية، لاسيما اثناء الزيارات الدينية، التي تُستغل من قبل الجواسيس والعملاء للتغلغل والاضرار بالأمن الوطني، وعلى صانع القرار السياسي والأمني فهم ان الامن له الأولوية على أي اعتبار اخر، خاصة إذا توقف عليه الحفاظ على قوة الدولة وحماية مواطنيها.
كما كشفت الحرب مخاطر الهجمات السيبرانية وقدرتها على تعطيل الاعمال والمصالح، والحاق الضرر الكبير بالمعلومات الشخصية والعامة، وتتتبع الأهداف المرغوب في التخلص منها بتوظيف مختلف القدرات التكنلوجية، كالذكاء الاصطناعي، وهذا يتطلب استعدادا حكوميا عراقيا لمثل هذه الهجمات، لا في وقت الحرب فحسب وانما -أيضا- في وقت السلم، وان تكون لدى الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية في العراق خطط طوارئ مدروسة لهكذا حروب، يتم فيها اعداد المواطن وتهيئته مسبقا لها، فالجبهة الداخلية الضعيفة غالبا ما تكون عامل مساعد للأعداء في الاخلال بالأمن وكسب الحرب.
اما السيادة العراقية، فالعراق كان – للأسف- مكشوفا تماما للطرفين المتحاربين، اذ مرت هجماتهم المتبادلة عبر اجوائه بدون رادع، وقد تشارك هذا الحال مع كل من سوريا والأردن، مما يعني هشاشة القدرات العسكرية وفشلها في اقناع الأطراف المتحاربة بعدم انتهاك الأجواء العراقية. ونظرا إلى أن هذا الوضع لم يحدث للمرة الأولى، ولن ينتهي بهذه المرة؛ بسبب استمرار الأسباب الكامنة وراء الصراع بين تل ابيب وطهران، واحتمال انهيار الهدنة الحالية والعودة للحرب في أي وقت، فإن من المخزي تكرار هذا الانتهاك السافر للسيادة العراقية من قبل أي طرف إقليمي او دولي، مما يتطلب من الحكومة العراقية إعادة النظر في خطط تسليح وتنظيم قواتها المسلحة، فضلا عن ربط نفسها بتحالفات خارجية قوية تساعدها عند الحاجة في منع انتهاك سيادتها، وربما تكون البداية بإعادة النظر باتفاقية الاطار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة والموقعة سنة 2011 لتتضمن شقا ملزما لواشنطن بحماية الأجواء العراقية مهما كانت الأسباب، أو الذهاب للبحث عن حليف موثوق افضل منها يمكنه إعطاء مثل هذا الالتزام، مع التركيز على حقيقة مهمة ان البلد الذي لا يمكنه الاعتماد على قدراته الذاتية في حماية أمنه وسيادته سيكون اسيرا لرغبات الاخرين عند اعتماده عليهم.
فضلا عن الهشاشة العسكرية، ظهر جليا ان العراق يعاني-أيضا- من هشاشة اقتصادية واضحة، فاعتماده الكبير على النفط وعدم إيجاد موارد بديله له، حبس انفاس العراقيين قيادة وشعبا، بسبب احتمال انقطاع تصدير النفط العراقي؛ نتيجة غلق مضيق هرمز او تعرض موانئ التصدير إلى ضربة عسكرية مباشرة، إضافة إلى احتمال توسع نطاق الحرب وشمول العراق بالعقوبات المباشرة من قبل واشنطن، وأفضل مثال للدلالة على حجم هذا الخطر هو قيام الكثير من الاسر العراقية بتخزين المواد الغذائية والسلع الضرورية تحسبا لأسوأ السيناريوهات. إن مثل هذه الهشاشة الاقتصادية تتطلب معالجة من قبل الحكومة العراقية، كي لا تبقى أسيرة مضيق هرمز في تصدير نفطها، ولا أسيرة النفط في توفير الإيرادات لخزينتها العامة.
ان الحرب الإسرائيلية -الإيرانية ستعيد حتما قراءة نمط الحروب في الوقت الحاضر والمستقبل، وهي تمثل فرصة مناسبة للعراق وبقية دول المنطقة لمعرفة ما ينتظرها من مخاطر في حال اندلاعها، والدول الذكية ليست الدول التي تحافظ على الأساليب التقليدية في تفكيرها وتسليحها، بل هي التي تستطيع التكيف مع الأساليب الجديدة المستحدثة، وتلافي نقاط ضعفها القاتلة؛ من اجل الاستعداد لكل السيناريوهات مهما كانت درجة خطورتها.